* وصية النبي للوصول إلى الله..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق» رواه الإمام أحمد في المسند، وحسنه الألباني.
هذه الكلمات النبوية العظيمة تنير الطريق أمام المسلم في سيره إلى ربه، فهي تضمن له دوام السير، والحفاظ على القوة النفسية والبدنية حتى لا تكون عبادته لله وضمة خاطفة سرعان ما تخبو خلف الأحداث وتتابع الأيام وسآمة النفوس وغلبة الشهوات.
هذا الحديث العظيم وإن كان يقتصر البعض في فهمه على أنه توجيه بالبعد عن الغلو والمشقة على النفس في العبادة، إلا أن معانيه ومراميه أعظم بكثير، فهو يضع الإطار الذي يحمي الهمة العالية ألا وهو الرفق، مع الحفاظ على قوة السير والمسارعة إلى مغفرة الله ورضوانه بقوله «أوغلوا».
¤ الرفق منهج حياة:
الرفق لغةً يحمل معاني: القصد في السير، وأخذ الأمور بأحسن الوجوه وأيسرها، والإعتدال بشكل عام.. وهو نمط تفكير وحياة للمسلم، ففي الحديث الآخر: «من يُحْرم الرفق يُحْرم الخير كله» صحيح الجامع.
المسلم رفيق مع غيره، رفيق مع نفسه أيضًا، ومن الأخطاء الشائعة تصور أن الرفق يعني التراخي والتهاون، لأن الرفق فضيلة، والفضائل هي توسط بين طرفين مذموم، فالرفق هو فضيلة عظيمة تتوسط التراخي من ناحية، والعنف والشدة من ناحية أخرى، وكما قيل: لا تكن لينًا فتعصر، ولا صلبًا فتُكسر.
فالأمر بالرفق بالنفس في أمور الدنيا والآخرة، هو أمر بالمضي قُدمًا فيما ينفع، والإستعانة بالله وعدم العجز، والجد والعزم والمثابرة ولكن بلطف وحسن تدبير.. برحمة وشفقة.. بإختيار لأيسر الوسائل، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما خُيِّـرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط، إلا اختار أيسرَهما، ما لم يكن إثماً» متفق عليه.
¤ أدومه وإن قـــلّ:
ومن القواعد النبوية العظيمة أيضًا ما رواه الإمام مسلم في صحيحه: «أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل»، والتي تتعاضد مع القاعدة السابقة «أوغلوا فيه برفق»، ليمهدا الطريق أمام المسلم ليحقق العبودية في حياته كلها، ولا يمت إلا على الإسلام، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162].
ففيهما نفس الإشارة إلى أهمية التدريج والبدء بقليل العمل مع المداومة عليه وثبيته، ثم الزيادة والتوسع شيئًا فشيئًا، وهو ما يشير إليه المعنى اللغوي للفظة «أوغلوا» بما تحمله من دلالات التعمق والإمعان في المسير.
فما أسهل أن يتعبد الإنسان ويجتهد ويشتد في المسير يومًا أو يومين، شهرًا أو شهرين، مستندًا على عاطفة وإنفعال وشحنة إيمانية قوية، ثم ما يلبث أن يفتر وينتكس ويملّ، ويتراجع مفاجئًا لنفسه ومن حوله، وقد يتبدل به الحال وينتقل من إنفعال إلى إنفعال، ومن إشتداد ديني إلى إشتداد شهواتي أو إغراق في أفكار وعادات أخرى.
وليس هذا هو المنهج الإسلامي الذي تأتي كل عبادة فيه، كل ذكر، كل عمل صالح، ليزكي النفس، ويغيرها إلى الأفضل، ويأخذ بها إلى الرشاد والسمو.. فالصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء.. وكل عبادة لها غاية لا تقتصر عند رسمها وأدائها، فالصلاة: {تنهى عن الفحشاء والمنكر}، والصيام: {لعلكم تتقون}، والزكاة: {تطهرهم وتزكيهم بها}... وهكذا.
والبطولة الحقيقية للمسلم هي أن يسير إلى الله بثبات وحُسن سياسة للنفس، فيغتنم أوقات الإقبال، ويروّح عن نفسه بما لا يسخط ربه في أوقات فتوره، وأن يسوس نفسه بذكاء ويتدرج في مراتب العبودية، وينوّع في صورها، ويحرص على المداومة على الصالحات، فإن المنبت لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى.
الكاتب: مي عباس.
المصدر: موقع رسالة المراة.